التهدئة السياسية..الورقة الرابحة / سيدي محمد السباعي

لم يعرف المسار السياسي الوطني مرحلة من التصالح مع الذات كما عرفها وعايشها في السنوات الثلاث الأخيرة ،علاوة على المنجز في المجال الاجتماعي والتربوي والمالي والإصلاحات التشريعية والمؤسسية في محاربة الفساد وفي مجال الحكامة الإدارية (ينظرسرد الإنجازات المتعددة التي غاصت بها الفضاءات الرقمية والأثيرية منذ أسابيع ). وهذا المنجز لم يكن ليتحقق لولا اعتبارات تتعلق أولا بميكانيزمات وديناميكية الخطاب السياسي للنظام، الذي تأسس على استيعاب فلسفة المرحلة السياسية في الداخل والخارج ، بعيدا عن أزمة الثقافة السياسية الدولية وبعيدا من تجاذبات وتأزيم المشهد السياسي الداخلي ، وتتعلق ثانيا بمستوى الوعي باللحظة التاريخية القائمة على فهم وتفكيك عناصر التنافر الفكري للعديد من الزعماء والفاعلين السياسيين ، وأخيرا فهم آليات الوصل والفصل في الممارسة السياسية .

أولا دينامية الخطاب السياسي :

إن القراءة الكرونولوجية التتبعية لخطابات السيد رئيس الجمهورية منذ أغسطس 2019 وحتى خطاب “اليوم الإعلامي لتآزر” توضح بجلاء أنه تأسس على رؤية ذات أبعاد ثلاثة هي :

⦁ الانحياز للمواطن ،للإنسان والفئات الطرفية .

⦁ تهدئة و تطبيع المناخ السياسي وإعادة تخليق الحياة العامة على أسس من الإجماع الوطني . بعيدا عن هيمنة الشعبوية والشرائحية والفئوية .

⦁ الفهم الاستراتيجي للتحولات السياسية الدولية السريعة.

ولأن البرامج والتدخلات الاجتماعية أصبحت واضحة للعيان في الفضاءين المذكورين أعلاه ، وأن تجربة قيادة دول الساحل على قصرها توضح بقوة المنجز الاستراتيجي في المجال الجيوسياسي ، إلا أن القدرة على التهدئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية تنم عن كاريزما من نوع خاص قادرة على تحقيق جو من الاستقرار المجتمعي والدفع الى الأمام بعجلة التنمية المتعثرة في بيئة عالمية مضطربة تتسم بالأزمات الصحية والاقتصادية وربما الوجودية .ولأن المشككين ومشعلي الحرائق لم يستوعبوا أن الجو السياسي الداخلي ـ الذي عرف مراحل طويلة من الممارسات المتشنجة التي اتخذت طابع الصراع والإقصاء والتجريم والتخوين والغوغائية ـ يمكن تطبيعه ، بسرعة ولكن بهدوء ،على أساس من إعادة بناء الثقة وحسن الاستماع و الالتزام العقلاني الحداثي ، لذلك بقيت فئات هامشية من فلول الراديكاليات ترفع صوتها ملوحة بشعارات تتفاوت بين مواضيع الحوار الديمقراطي، والإصلاحات الدستورية والتشريعية، وتعزيز دولة القانون وبين معالجة إشكاليات اجتماعية من رواسب الممارسات البائدة ، ولأن الصوت العالي ليس دائما صوت الحق ، فقد كان الرد هادئا كالعادة حيث تعهد السيد الرئيس في سبتمبر الماضي بتنظيم تشاور سياسي شامل “لن يستثني أحدا ولن يحظر فيه أي موضوع” وكلنا يعرف بقية الرواية ،ومع ذلك لا يستبعد أن يجرى هذا الحوار الشامل أو التشاور حالما تكون الظروف مواتية لجميع فرقاء الطيف السياسي.

ثانيا الوعي باللحظة التاريخية

بعيد انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة بدأ تشاور سياسي من نوع خاص ،تمثل في استقبال ممثلي الطيف السياسي من المنافسين في الانتخابات الرئاسية إلى رؤساء الأحزاب والتشكيلات السياسية ، إلى الشخصيات المرجعية ،الوازنة في المشهد المجتمعي العام ، كل ذلك للحفاظ على المكتسبات الوطنية وأولها الوحدة الوطنية .

وقد أثمرت تلك التهدئة وذلك التشاور والانفتاح السياسي عن اتفاق الطيف السياسي في البلد على مبادئ عامة للدخول في تشاور وطني عام يعالج الإشكالات والقضايا الجوهرية التي يحتاج الموريتانيون إلى التباحث فيها بكل صراحة دون محاذير أو إقصاء والنتيجة كانت مستوى من التوافق الوطني على أرضية واحدة يقف عليها الجميع ، حتى أن البعض أصبح يتندر بموت المعارضة على قرار أطروحات موت المؤلف وموت القارئ وموت الجمهور.

 

ثالثا الوصل والفصل

أدت تلك الوضعية المريحة على مستوى النفسي الى بدء جهود لمكافحة الفساد وإصلاح القضاء والإصلاح الإداري والعقاري وتمكن النظام حسب المراقبين ، خلال فترة دقيقة ، من إحراز حصيلة مرضية في ظرف دولي استثنائي، ميزته جائحة كورونا وما ترتب عليها من أزمات اقتصادية طالت جميع دول العالم،

ولم يكن ذلك ممكنا لو لم تكن لدى رئيس الجمهورية رؤية بعيدة لمآلات الشأن العام تتجاوز الممارسات الإقصائية البائدة التي طبعت المشهد السياسي لعقود ،الى مساحة من الاستماع للآخر مهما كان صوته نشازا ، لذلك طغت لغة التواصل والتواد على لغة الانفصال والإقصاء ، ومع ذلك لا تستغرب حتى اليوم سماع أزيز الذباب الالكتروني الأزرق أو رؤية دخان الحرائق السيبرانية والمتاجرين بقمصان الجميع.

زر الذهاب إلى الأعلى