غزوة بدر منبع الهام للفكر الاستراتيجي المعاصر: كيف نستنبط منها في موريتانيا؟
لم تتبدد مخاوفي كليا حتى الآن، رغم أن البرنامج التلفزيوني كان مرضيا إلى حد كبير، حسب المشاركين فيه والقائمين عليه، وحسب ما اطلعت عليه من أصداء لدى المشاهدين؛ فالزاوية التي تراءى لي علاج الموضوع من خلالها لم تكتمل لحد الساعة، بينما معلومات علماء الدين والسيرة النبوية المشاركين معي كانت تامة ودقيقة. لذا، كان ترددي فعلا مبررا حين تلقيت الدعوة من قناة “المدينة” الموريتانية للمشاركة في نقاش حول غزوة بدر رفقة هؤلاء، قائلا في نفسي: “لا يُفتى ومالكفي المدينة”.
أنا من الصنف الأخير…
بعدما أمعنتُ النظر، وبدأتُ أراجع معلوماتي، تولد لدي إحساس بأن لكل منا ما يقوله بسبب ثراء الموضوع وتشعبه. ثم تأكد شعوري حسب ما علمته عن المتدخلين الآخرين: الفقيه الشيخ محمد فاضل ولد محمد الأمين، الشاب الخبير في السيرة النبوية الأستاذ محمد عبد الرحمان ولد امبارك، والشاعر”خديم رسول الله صلى الله عليه وسلم” زياد. وقد تبادرت لي منذ بداية حديثنا الملامح العامة لزوايا متعددة يجد فيها كل متدخل مبتغاه: منا من سيستمتع ويفيد بسرده الأحداث وتسلسلها والتعريف بأبطالها، ومنا من سيؤكد ذلك ويعمل على تأصيله وإزالة الشبهات بالرجوع إلى القرآن والسنة واقوال العلماء، ومنا من سيجد فيها إلهاما لشاعريته وتسخيرها لخدمة خير البرية، ومنا من سيجد ضالته في تأويل إدارة المعركة ومراحلها المختلفة على ضوء المفاهيم الإستراتيجية والجيوسياسية المعاصرة.
وهكذا توزعت الأدوار تلقائيا بيننا وتكاملت. وكنتُ من الصنف الأخير. فغزوة بدر الكبرى بالنسبة لي تشكل نموذجا للدلالة على مفاهيم استراتيجية معاصرة تعودتُ نسبيا على التعاطي معها خلال خدمتي العسكرية وبعدها. فهي، كأي معركة أو حرب تاريخية، تقدم للبشرية دروسا في مجال الفكر الاستراتيجي. فالنقلة النوعية التي أضافها النبي صلى الله عليه وسلم وقومه بتلك المناسبة في هذا المنحى أغنى وأشمل مما يمكنني الوقوف عليه. فسوف تقتصر ملاحظاتي في هذه الورقة على بعض النقاط وبيان تطورها مسايرةً للمفاهيم الاستراتيجية والجيوسياسية المتداولة اليوم على نطاق واسع، وربطها بمسائل وطنية.
الإيمان بالقضية
يتوقف النصر في أي نشاط على مدى اندفاع والتزام القائمين به. فالإيمان بالقضية هو سر النجاح في كل عمل: عسكري، سياسي، اقتصادي… إلخ. وأعلى درجات الإيمان تتمثل في ما تحلى به قوم محمدصلى الله عليه وسلم: إيمانهم لا يتوقف على ظرف مكاني أو زماني، ولا انتماء عرقي أو قبلي ولا على أي شرط دنيوي. تجاوبهم معه كان كاملا مطلقا؛ وتجاوز ما لقيه الرسل الآخرون من طرف أتباعهم. قوم موسىعليه الصلاة والسلام، على سبيل المثال، اشترطوا على نبيهم أن يبعث لهم ملكا واحتجوا عليه وتذمروا، “إلا قليلا منهم” كما جاء في النص المحكم[i]. أما مجاهدو غزوة بدر، فخلافا لبني إسرائيل، صدَّقوا الرسول في كلما جاءهم به، متيقنين بظاهره وباطنه. لم يسألوه، مثلا، ولم يترددوا لما أنبأهم بأن الملائكة يقاتلون إلى جانبهم؛ بل على العكس، فرحوا بالخبر وزادهم قوة واقداما، رغم كون العقل لا يدرك طبيعته ولا يمكن للحاسة البشرية التعامل معه؛ غير أن قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقينهم كامل بأنه “ما ينطق عن الهوى”. وهذه نعمة أخصه رب العزة بها دون عباده الآخرين، ولو أن الصدق في الأفعال والأقوال فرضه الله على الناس جميعا.
ونحن في موريتانيا في حاجة ماسة إلى التذكير بهذه الفريضة والحث عليها، خاصة في مجال المعاملات؛ حيث ينقصنا أن نتحلى بالضمير المهني كما ينبغي، وأن نحسن من أدائنا في العمل ومن تعالمنا مع الآخرين. ولا تقتصر النواقص في هذا الشأن على المسؤولين والقادة، بل تشمل المواطنين عموما. إلا أن من يتولون وظائف قيادية ومسؤوليات كبار أكثر تعرضا للنقد من غيرهم. بل إن تعرضهم في هذا المنحى يتناسب طرديا مع مستوى تموقعهم المؤسساتي: بقدرما سمت الوظيفة، أصبح صاحبها عرضة للنقد والأذى. ويشتد استهدافه عندما يتعلق مجال عمله بإدارة الشأن العام؛ فلا غرابة في هذه الحالة إن نال الوزراء وقيادة الدولة أكبر نصيب من النقد والاستياء. فبوصفهم على الواجهة وسياسيين، ينطبق عليهم المثل الشعبي: “لحم الرقبة مأكول ومذموم.” ولا سبيل لهم من الخلاص سوى أن يؤمنوا بما يفعلون ويؤدوه على أحسن وجه. فحينها، سوف يحصلون على الأقل على نتيجتين عظيمتين : إن لم يرض عنهم الناس، فسيرضى عنهم ربهم، و ضمائرهم لن تؤنبهم.
القيادة التشاركية
لم ينزل القتال في بدر بأمر سماوي، بل أذن الله به لرسوله. ولم يتخذ صلى الله عليه وسلم القرار بمفرده، بل استشار قومَه في الأمر؛ فتقبلوا فكرته مستجيبين له بحماس منقطع النظير. وسوف تتكرر وتتواصل عملية التشاور بينهم خلال مراحل المعركة كلها: كان الرسول يستشيرهم خلال تحضيره لاعتراض قافلة قريش التجارية القادمة من الشام إلى مكة،وبعد ذلك خلال معركة بدر الكبرى. وظل يتقبل بصدر رحب آراءهم التي ترده بطلب منه أو بمبادرة من أصحابها.
وهذا فن قيادي يعرف تحت أسم ” القيادة التشاركية”[ii]. ويعتبر اليوم حديثا رغم كون النبي صلى الله عليه وسلم اعتمده. وتتسابق مراكز اتخاذ القرار والمعاهدُ العليا للتكوين العسكري ومؤسسات التخطيط الاستراتيجي لاستثماره وتطويره. ويعد التقيد به على رأس مؤشرات ومقومات النجاح في القيادة (leadership)، ليس فقط في المجالات العسكرية، فحسب وإنما في الميادين كلها: الإدارة، التخطيط، الأعمال… إلخ.
ومما يستدعيه أسلوب القيادة التشاركية، ويُتوخَّى منه أن يكون الزعيم (leader) مُلهِما لمرؤوسيه، مؤثرا فيهم بصورة طبيعية وبناءة، وذا نهج قيادي أصيل. شروط تجلى توفرها في النبي صلى الله عليه وسلم خلال غزوة بدر وغيرها من مساره النبوي.
ويتنافس القادة مهما كانت مستوياتهم على التحلي بمواصفات القيادة التشاركية. ولا تخلو بلادنا من معالم وبوادر في هذا المجال: محاولات رئيس الجمهورية المتواصلة لجعل التشاور سنة بين الفرقاء السياسيين ومع الفاعلين الاقتصاديين. إلا أنه من الصعب أن تلقى رسالته دائما آذانا صاغية، كما يدل على ذلك صعوبة انطلاق الحوار السياسي الراهن. فعلى المعنيين أن يكونوا أكثر استجابة لقائد البلد، مستلهمين الدروس من سلوك قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما يستشيرهم في أمر، كما بينا آنفا.
تأمين القيادة وأهمية السيطرة على النقطة المرتفعة
عرف عن القائد العسكري العظيم ورجل الدولة الفرنسي، نابليون بونابارت، اهتمامه الشديد بالسيطرة على نقاط الميدان المرتفعة من اجل التحكم في ساحة المعركة، و تأمين القيادة. وقبله بأكثر من عشرة قرون، اقترح الصحابي سعد ابن معاذ– رضي عنه- على النبي أن يقيموا له على مشارف بئر بدر عريشا في مكان مرتفع يؤمنه ويعطيه رؤية شاملة عن ميدان المعركة. فقبل صلى الله عليه وسلم برأيه، تجسيدا مرة أخرى لنهجه في القيادة التشاركية، كما أسلفنا. وكلنا نعرف النتيجة: انتصار باهر للمسلمين وهزيمة مذلة للمشركين.
وما زال الصراع على النقاط المرتفعة متواصلا؛ بل اتخذ أبعادا تكنولوجية رفعت من مستواه بدرجة مذهلة قد لا تخطر ببال كثير من الناس: المنافسة من أجل السيطرة على الجو وسباقُ غزو الفضاء. ففعلا يُنظر من الناحية العسكرية إلى الطيران وإلى الأقمار الصناعية والأجهزة الفضائية عموما على أنها الوجه التكنولوجي الحديث لتطور النقطة المرتفعة وأهميتها كمفهوم استراتيجي أساسي. فهي تشكل من هذا المنظور امتدادا للرؤى الإستراتيجية التي أدت في الماضي إلى بناء القلاع وإلى قيام وإنشاء بُنًى تحتية أرضية مرتفعة للسيطرة على ساحات القتال والميدان بصورة عامة واستباق العدو في المجال. و هذا الجانب فعلا هو ما تنبه له النبي صلى الله عليه وسلم هو وأعوانه في أول عملية مسلحة لهم، وحسب الظروف آنذاك.
وعلى نفس المنهج الاستراتيجي الرامي إلى توظيف النقطة المرتفعة بدرجة جيدة، ينبغي لنا في موريتانيا أن نعمل على كسب الآليات المتوفرة بغية استغلال التكنولوجيا الجوية والفضائية. ويجب التركيز على اقتناء الوسائل ذات التطبيقات الثنائية، أي: الممكنة الاستخدام في أن واحد في المجالات العسكرية وفي المجالات المدنية. ومن أهم تلك الوسائل الطائرات المسيرة وتطبيقات الأقمار الصناعية المتعلقة بالتصوير الفضائي، وبالاتصال، وبتحديد المواقع الجغرافية. وتتوفر بكثرة هذه الوسائل اليوم في الأسواق العالمية وبأسعار تجعلها في متناول كل الدول.
(يتواصل)
عقيد (متقاعد) البخاري محمد مؤمل (اليعقوبي)