قراءة في كتاب رئيس وزراء مالي الذي آثار السخط!
يعدّ كتاب “مالي.. قصة حياتي” باكورة مؤلفات السيد شوغيل كوكالا مايغا، التي صدرت وهو في أعلى هرم السلطة، في منصب رئاسة الحكومة، وهو المسؤول عن تطبيق رؤية رئيس الدولة من خلال تنفيذ برنامج السياسة العامة للحكومة مع فريقه الوزاري. ومن هنا تنبع أهمية هذا العمل الذي يوضح الطابع السياسي والتنفيذي لحكومة الفترة الانتقالية في مالي.
يسرد مؤلف “مالي.. قصة حياتي” جوانب من حياته، منذ انخراطه في أنشطة التجمعات الطلابية، إلى دخوله عالم السياسة وتوليه مناصب عدة.
يمكن إدراج الكتاب ضمن السرديات التاريخية، حيث سعى الكاتب إلى ربط تسلسل الأحداث التي عايشها، بل وتلك التي كان طرفًا فيها، وفق ترتيب منتظم للوقائع التاريخية. والكتاب لمحات من سيرة ذاتية، وخلاصة ذاكرة، ومقتطفات من مسيرة حياة، منها ما هو ظاهر للعيان، ومنها ما كان خافيًا عن ضوء المعاينة، وتتسم بالقابلية لأوجه مختلفة من التأويلات، وتتضمن أيضًا بعضًا من الرسائل التي يريد المؤلف إيصالها إلى القارئ.
يفتتح الكتاب بعبارة: (الكذب الصاخب يتغلب على الحقيقة الصامتة)، بمعنى أنه لا بد من الانقلاب على ظاهرة استفحال أبواق المخادعين، الذين جاؤوا بالديمقراطية الغربية عبر العرابة فرنسا
السياق والمسوغات
إن أهم مسوغات كتابة المقال تُستقى من مسوغات تأليف الكتاب نفسه، وقد عدّه المؤلف إعلاء لصوت الحق في ظل تغوّل الباطل الذي زيَّف الحقائق وغيّب العقول.
يفتتح الكتاب بعبارة: “الكذب الصاخب يتغلب على الحقيقة الصامتة”، بمعنى أنه لا بد من الانقلاب على ظاهرة استفحال أبواق المخادعين، الذين جاؤوا بالديمقراطية الغربية عبر العرابة فرنسا.. 30 عامًا قضاها الشعب مع كذب النظام، في التلاعب بالأحداث من أجل بناء دولة على الباطل، لا لينعم الشعب بالعيش الرغيد؛ وإنما لاستغلاله في تحقيق مصالحه الشخصية، والتي من ورائها يثبت المستعمر أقدامه.
يذكر المؤلف الذي خاض سباق الانتخابات الرئاسية مرتين، في 2002 وفي 2018، ألقى خلالهما الكثير من الخطابات والمداخلات واللقاءات التلفزيونية والحوارية، والتقى بالعديد من الشخصيات، وتناقش معهم بشأن ملفات مهمة في إدارة الدولة، كل ذلك بحضور زوجته التي تعد شاهدة عيان على كل ذلك؛ فقد أشارت إليه بأن يكتب هذه الأحداث والمواقف، لتكون ذاكرة حية تتحدث عن تاريخ مالي المعاصر، الذي تجري أحداثه أمام أعيننا.
قيم ومبادئ
يذكر المؤلف أنه التزم بعدة قيم ومبادئ، صنعت هذه الشخصية التي أوكلت إليها مهام لإدارة هذا البلد. أول تلك المبادئ هو معرفة المرء ذاتَه، حيث يكون على إدراك لقدراته وحدوده، وإن “معرفة النفس بداية كل حكمة” كما قال أرسطو، فمن خلال معرفة النفس يستطيع الفرد معرفة المجتمع الذي يعيش فيه، وبالتالي معرفة كيفية إدارة شؤونه.
معرفة النفس والمجتمع والأمة التي ينتمي إليها كانت من خلال مطالعة كتب التاريخ، حيث يذكر أنه قرأ أجمل صفحاته، خصوصًا تاريخ نضال الشعب في فترة الاستعمار الفرنسي، ويضيف أنه تعرّف أكثر إلى صفات وطبائع الشعب المالي من خلال زيارته للأرياف والمدن البعيدة، تعلّم منها أن يبقى الإنسان على تواضعه في كل المواقف، وأن يظل وطنيًا في جميع الأحوال.
أهم محطات حياته
تناول الكتاب حياة المؤلف منذ أن كان شابًا في الثانوية التقنية عام 1974م، وبعد تخرجه تم ابتعاثه إلى موسكو لدراسة الاتصالات إلى أن حصل على درجة الدكتوراه، ثم عاد إلى مالي ليتدرج في المناصب الإدارية. ويروي أنه شاهد مدى التلاعب بعقول الناس، ونتيجة ذلك الانقلاب العسكري عام 1991، الذي أطاح بالرئيس موسى تراوري بمباركة فرنسا، وسقط فيه كثير من القتلى، وفُقد كثيرون أيضًا.
بعد الإطاحة بالرئيس تراوري وتفكك حزبه إثر استقطابهم من قبل الديمقراطيين، يذكر الكاتب أنه حاول إحياء الإرث السياسي وإعادة حزب تراوري إلى الوجود بعد تثبيت الديمقراطية كأساس للحكم، وأصبحت التعددية الحزبية حقًا يضمنه الدستور، لكنه واجه رفض وتعنت الإدارة الجديدة في البلاد، التي لم ترد منحهم التصاريح اللازمة، وهو ما دفعه لإنشاء حزب جديد رأى النور في العام 1995م، وهو حزب يحمل اسم “الحركة الوطنية من أجل التجديد” (MPR).
أثار الكتاب الكثير من الجدل في الأوساط السياسية، خاصة تلكم المحسوبة على التيار الديمقراطي؛ حيث وصفه بعضهم بأنه يدعو إلى التفرقة في وقت يحتاج فيه الماليون إلى الوحدة، وذكر آخرون أنه في العادة يكتب المسؤولون عن حياتهم بعد انتهائهم من مهامهم
مواقف مع رؤساء سابقين
أفاد الكاتب بأن هنالك مواقف تاريخية لبعض رؤساء مالي على الساحتَين الوطنية والدولية، جعلت منهم رجالًا تركوا أثرًا في نفسه على الرغم من خلافه السياسي معهم.
أول هذه المواقف كان للراحل أمادو توماني توري، حينما تمت دعوته في العام 2010 لحضور عرض عسكري في الشانزليزيه بمناسبة حصول معظم الدول الأفريقية على الاستقلال عن فرنسا في عام 1960م، وبينما يجري العرض العسكري وقف جميع الرؤساء الأفارقة تحية لجيش فرنسا باستثناء رجل واحد، ظل جالسًا في مقعده؛ لأنه يدرك حجم الجرائم التي ارتكبها هذا الجيش في السابق ضد المدنيين في مالي، فآثر الجلوس، إنه أمادو توماني توري.
يذكر أيضًا أن الرئيس إبراهيم كيتا ندد بالسياسة الغربية يوم توقيع اتفاقية السلام في العام 2015 مع الحركات المسلحة، حيث ذكر دبلوماسي فرنسي أنه يجب أن تظل إمكانية توقيع الاتفاقية مفتوحة مع الحركات التي لم توقّع بعد، ويجب ألا يكون مبدأ عدم التوقيع دافعًا لاستهدافهم عسكريًا، في نبرة تهديد أمام رئيس الجمهورية الذي لم يدع الخطاب يمر دون رد حازم، إذ شدد على ضرورة احترام الشعب المالي الذي طالما وفَّى بالتزاماته، مؤكدًا على ردود الفعل المسؤولة، التي قام بها الجيش تجاه الاستفزازات وخرق اتفاقية وقف النار، التي قام بالإبلاغ عنها لكن نادرًا ما تم التجاوب معه.
قالوا عن الكتاب
أثار الكتاب الكثير من الجدل في الأوساط السياسية، خاصة تلكم المحسوبة على التيار الديمقراطي؛ حيث وصفه بعضهم بأنه يدعو إلى التفرقة في وقت يحتاج فيه الماليون إلى الوحدة، وذكر آخرون أنه في العادة يكتب المسؤولون عن حياتهم بعد انتهائهم من مهامهم، إلا أن الوزير الأول بدلًا من تحليل مشاكل الدولة أخذ يكتب عن نفسه ويتفاخر بها، في وقت يعاني فيه الماليون من نقص في الكهرباء والغذاء، بل ذهب أحدهم إلى أبعد من ذلك عندما اتّهم الوزير الأول بالتلفيق وخلق الأكاذيب.
وعلى صعيد آخر ذكر بعضهم أنه كتاب غني يتناول أحداثًا تكشف مدى التلاعب في عقول العامة، وكذلك التاريخ السياسي لشخصية معاصرة ما زالت تضع بصمتها على الواقع المالي، وأن المؤلف حر في كتاباته ولا يوجد تاريخ محدد للنشر أو الكتابة.
في لغة بسيطة التراكيب، بعيدة عن الكلمات الصعبة التي تستوجب استخدام القواميس، يستهدف الكاتب كل من يعرف القراءة، ويحاول الدخول إلى حقل أفكارهم لإقناعهم بمواقفه وبفكره السياسي
كتاب “مالي.. قصة حياتي” يظل عملًا مهمًا، حيث كتبه سياسي تقلّد حقائب وزارية عدة مع رؤساء مختلفين، عدة قواسم مشتركة تربط الكاتب مع الرئيس الحالي، العقيد غويتا، منها مناهضتهما لمرحلة الرئيس كيتا ورغبتهما في خلق فترة انتقالية تُحدث قطيعة مع الماضي، وكذلك الحصول على السيادة الحقيقية لمالي.
إن قراءة تحليلية بين سطور الكتاب كفيلة بأن تجعل القارئ يتفهم منهج الدبلوماسية الصارم الذي انتهجته مالي خاصة مع المستعمر القديم؛ فخطاب المؤلف الذي ذيّل به الكاتب في الأمم المتحدة، يعد من أهم الخطابات التي ألقاها، واعتُبِر نقطة تحول في العلاقات، أفضت إلى توترات كبيرة، وأخذت منعطفًا نحو المعسكر الشرقي، نحو روسيا والصين وتركيا.
في لغة بسيطة التراكيب، بعيدة عن الكلمات الصعبة التي تستوجب استخدام القواميس، يستهدف الكاتب كل من يعرف القراءة، ويحاول الدخول إلى حقل أفكارهم لإقناعهم بمواقفه وبفكره السياسي.
علي كونتا